عن الغربة في الوطن... أو الغرب الذي يسكن شبابنا

No alt text provided for this image

"هجرة الشباب العربي"، لم يعد هذا العنوان مستهجناً أو غريباً على مسامعنا، لكن، وكما يبدو، علينا أن نستذكره دائماً ونبحث في حيثياته ونتائجه لنصل إلى الحلول، وما زلت أرى في كل مرة أعود فيها للاطلاع على هذا الفصل من فصول حياة المجتمع العربي، أسباباً جديدة أو متجددة، لكنها تزداد تعقيداً وحراجة مع مرور الزمن، وأعتقد أيضاً أننا بتنا اليوم بحاجة ماسّة إلى أخذ الأمور بجدية أكثر مما سبق، قبل أن يفوتنا القطار ونخسر شبابنا في عصر لن نستطيع أن نستمر فيه إلّا بهم ومن خلال قدراتهم وطاقاتهم.

 

أقول هذا لأنني مدرك تماماً أنه مهما كنا مواكبين للعصر وتطوراته فلن نكون أفضل من جيل الشباب الجديد، الذي نشأ ضمن بيئة شفافة الجدران على العالم الخارجي، متأثرة به، لكنها لم تسايره بعد. فما زالت هذه البلدان واقفة على أطلال حضاراتها الماضية غافلة عن الحاضر نائية عن المستقبل. وعلى الخط الموازي للصراعات والنزاعات السياسية والدينية التي تعيشها المنطقة، يعيش أغلب الشباب العربي حياة أقل ما يمكن القول عنها إنها غير صحية على الصعيدين المادي والمعنوي، ويواجه صراعاته الخاصة مع نفسه ومع واقع بلده الذي بالكاد يعالج قضاياه الكبرى، فنرى معظم الدول العربية لا تكترث للاهتمام بشؤون شبابها ومتطلباتهم، ولو أن ذلك الاهتمام كان منذ البداية ضمن أولوياتها، لما انتهى بهم المطاف بغربتهم واغتراب عقولهم وأدمغتهم.

 

يقول أبو حيان التوحيدي: "أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه". فلماذا يعيش الشباب العربي حالة الاغتراب في بلادهم؟

 

في الرد على هذا السؤال لن نستطيع ترتيب الإجابة، فهي بحد ذاتها فوضى، ولكنها غير خلّاقة للأسف، فالظروف المحيطة بشبابنا منذ صغرهم لم تلائم قط تطلعاتهم لمستقبل أوطانهم، ما جعل هدفهم الأوّل هو الهجرة سواء لتكملة تعليمهم أو لتحسين مستوى معيشتهم، أو بحثاً عن الأمن والتقدير. ومن الطبيعي أن يفكر الشباب العربي بالهجرة، فأغلبهم يعاني التهميش ويواجه صعوبة التعبير عن آرائهم وخططهم، ناهيك عن استحالة تطبيقها في بناء وتطوير مؤسسات بلادهم، وإن كان لهم مكان في تلك المؤسسات فهو مكان للعمل فقط، وغالباً في غير اختصاصهم، أو على الأقل ليس بمستوى أمنياتهم، فيهاجرون وقد حزموا في حقائبهم كل إبداعهم وفكرهم وطموحاتهم التي لم يبالِ بها أحد.

 

الأخطر من ذلك، وبعد أن تعقدت شروط السفر، اضطر الشباب العربي لأن يعيش الاغتراب في بلده، ذلك الاغتراب الذي حدده عالم الاجتماع الأميركي ملفين سيمان في خمسة مفاهيم هي: العجز، وفقدان المعايير، وغياب المعنى، واللا-انتماء، والاغتراب عن الذات. وبالفعل، يعيش شبابنا اليوم في وطنه مجرد جسد، بلا قدرة ولا حافز للقيام بشيء، ويفكر فقط بالهروب إلى مكان أفضل يستطيع فيه التعبير عن ذاته، ويتضح ذلك في ثقافته المستغربة "المستوردة"، والتي يحاول عيشها بأدق تفاصيلها، رغم أنه لم يرَ الغرب بعد ولم يعش فيه يوماً واحداً، لتصبح الثقافة العربية موضوعاً للتهكم بالنسبة له، فلا يتقبلها ويعدّها ثقافة متخلّفة لا تعبّر عن شخصيته ونمط الحياة الذي يسعى إليه. ولأنه لم يستطع الهروب من الفوضى واللا-منطق اللذين يسودان بلاده، اختار العيش بمنطقته الافتراضية وبمنطقه الخاص، وانسلخ عن مجتمع أخفق في التكيف مع أوضاعه، وباتت حياته لا تتسم بالاتزان، وتفتقد إلى التأثير والتفاعل والتواصل، وكأنه فيها كالغريب، ينطبق عليه قول ابن خلدون: "المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب".


يتوجه شبابنا اليوم إلى الثقافة الغربية ويغوصون فيها شكلاً ومضموناً حتى وهم بين ظهرانينا، فهؤلاء الشباب الذين عانوا من شعور الهزيمة المزمن منذ بداية تشكل وعيهم، لم يجدوا من سبيل للرضى عن ذواتهم إلا بالتشبه بما يعتبرونه معياراً، وهو في هذه الحالة الغرب الذي ينتمي إلى الدول "المنتصرة"، منتصرة في السباق العلمي والأكاديمي والعملي ومجال الحقوق والواجبات واحترام الذات الإنسانية، فباتوا وكأنهم يمشون على حبل مشدود بين مجتمع انسلخوا عنه لأنه ينتمي إلى عصر سابق، ومجتمعات في الجهة المقابلة لا يمكنهم الانتماء لها، ما يبقيهم في حالة من القلق والتوتر الدائم والتساؤل عن المستقبل المجهول! 

 

قد يبدو هذا الكلام يائساً، لكنه تشخيص مباشر للمشكلة، وهو أول طريق الحل الذي ينبغي أن يبدأ بخلق شعور الانتماء لدى شبابنا، وإعادة بناء ثقتهم بمجتمعاتهم ومؤسساتها وأوّلها مؤسساتها التعليمية، وضرورة تحديثها لتخرّج شباباً قادراً على مواكبة العصر، وتضعهم في الطريق الصحيح للإنتاج والإبداع. غير أن ذلك لا يمثل سوى خطوة في طريق طويل، فالتعليم الأكاديمي لم يعد أساساً كافياً للنهوض بالمجتمع من النواحي الاقتصادية والإنتاجية على وجه الخصوص، بل لا بد من برامج متخصصة بتطوير الشباب خارج إطار التعليم لمساعدتهم على تحديد أهدافهم دون الحاجة إلى الكثير من التجريب وهدر الطاقة ورأس المال. ولتمكِّن هذه البرامج الشباب من اختصار الطريق على أنفسهم، ومعرفة كيف يستثمرون طاقاتهم في الإنتاج وتطويرها بالشكل الأمثل، فتكون خير رافد للمؤسسات التعليمية ولحركة الاقتصاد في آن.

 

ومع أنه لم يعد بالإمكان إعادة تهيئة شبابنا من الصفر، إلا أن الفرصة ما زالت قائمة لتهيئة أجيال جديدة قادمة، عن طريق إعداد الخطط التربوية المتكاملة ورفدها بالموارد الاقتصادية اللازمة للاستثمار في الأطفال، ولا نجد عيباً هنا في استيراد برامج تربية وتنمية الطفل من الدول الناجحة بما يتماشى مع حاجة مجتمعنا دون طمس هويته، فينتقل تعليم الأطفال في بلداننا من مجرد تلقين أعمى منفصل عن الواقع إلى بناء المهارات المتعلقة بالعيش والتجارب الحياتية، فلا يسأل الأطفال أهلهم حينها: بماذا يفيدنا ما نتعلمه في المدرسة، وبماذا قد نحتاجه؟

تكمن المشكلة الحقيقية في أننا لا نملك الحق لنقول للشباب الذين يعانون الغربة عنّا رغم أنهم بيننا، أن عليهم الالتزام بأوطانهم وتوظيف طاقاتهم في خدمتها، لأن أوطانهم بذاتها تقف عائقاً أمام إظهار إمكانياتهم، بل إن المنظومات الراسخة في هذه الأوطان قائمة على كبت طاقاتهم وعدم تقبل أي جديد، سواء كان صادراً منهم أو مستورداً.

 

أخيراً، أعيد التأكيد على ما أحاول دائماً التنبيه له في مقالاتي حول مشكلات الشباب، والمشكلات الاجتماعية بالعموم، وهو ضرورة إيلاء هذه المشكلات اهتماماً فائقاً، ذلك أن أنجع الطرق وأوفرها لمواجهة هذه المشكلات تبدأ من التنبه المبكر لها واستشرافها، وإعداد العدة لتفادي الوقوع فيها، فالمجتمع كالجسد بالنسبة للصحة والمرض، والحفاظ على صحته يتطلب العمل باستراتيجية: "درهم وقاية خير من قنطار علاج". أما تأجيل حلول المشكلات الاجتماعية إلى ما بعد وقوعها، فإنه في الغالب ليس خياراً جيداً للقضاء على هذه المشكلات، بل لمجرد التعامل مع أعراضها ونتائجها فقط. 

لعرض أو إضافة تعليق، يُرجى تسجيل الدخول